فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم؛ فالجواب أنه لا يجوز أن يدعو نبيّ على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن؛ دليله قوله لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وعند ذلك قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] الآية.
والله أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا}
قال أبو العالية: دعا موسى وأمّن هارون؛ فسمى هارون وقد أمّن على الدعاء داعيًا.
والتأمين على الدعاء أن يقول آمين؛ فقولك آمين دعاء، أي يا رب استجب لي.
وقيل: دعا هارون مع موسى أيضًا.
وقال أهل المعاني: ربما خاطبت العرب الواحد بخطاب الاثنين؛ قال الشاعر:
فقلت لصاحبي لا تُعجلانا ** بنزع أُصوله فاجتز شِيحا

وهذا على أن آمين ليس بدعاء، وأن هارون لم يدع.
قال النحاس: سمعت عليّ بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما قول موسى عليه السلام {ربنا} ولم يقل رب.
وقرأ عليّ والسُّلَمِيّ {دعواتُكما} بالجمع.
وقرأ ابن السَّمَيقَع {أجبتُ دعوتَكما} خبرًا عن الله تعالى، ونصب دعوة بعده.
وتقدم القول في آمين في آخر الفاتحة مستوفًى.
وهو مما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهارون وموسى عليهما السلام.
روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى أُمّتي ثلاثًا لم تُعْط أحدًا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون». ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأُصول. وقد تقدّم في الفاتحة. قوله تعالى: {فاستقيما} قال الفرّاء وغيره: أمر بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة.
قال محمد بن عليّ وابن جريج: مكث فرعون وقومه بعد هذه الإجابة أربعين سنة ثم أهلكوا.
وقيل: {استقيما} أي على الدعاء؛ والاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستِقامة السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدو من الغيب.
{وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} بتشديد النون في موضع جزم على النهي، والنون للتوكيد وحركت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين.
وقرأ ابن ذَكْوَان بتخفيف النون على النفي.
وقيل: هو حال من استقيما؛ أي استقيما غير متَّبعَين، والمعنى: لا تسلكا طريق من لا يعلم حقيقة وعدي ووعيدي. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا} لما أتى موسى عليه السلام بالمعجزات الباهرات ورأى أن القوم مصرون على الكفر والعناد والإنكار لما جاء به أخذ في الدعاء عليهم ومن حق من يدعو على الغير ان يذكر أولًا سبب إقدامه على الجرائم التي كانت سبب إصراره على ما يوجب الدعاء عليه.
ولما كان سبب كفرهم وعنادهم هو حب الدنيا وزينتها لا جرم أن موسى لما أخذ في الدعاء قدم هذه المقالة فقال: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا} والزنية عبارة عما يتزين به اللباس والدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر والأشياء الجميلة والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه ثم قال تبارك وتعالى: {ربنا ليضلوا عن سبيلك} اختلفوا في هذه اللام فقال الفراء: هي لام كي فعلى هذا يكون المعنى ربنا إنك جعلت هذه الأموال سبب لضلالهم لأنهم بطروا وطغوا في الأرض واستكبروا عن الإيمان.
وقال الأحفش: إنما هي لما يؤول إليه الأمر والمعنى إنك أتيت فرعون وملأه زينة في الحياة الدنيا فضلوا فعلى هذا هي لام العاقبة يعني فكان عاقبتهم الضلال، وقال ابن الأنباري: هي لام الدعاء وهي لام مكسورة تحزم المستقبل ويفتتح بها الكلام فيكون المعنى ربنا إنك ابتليتهم بالضلال عن سبيلك: {ربنا اطمس على أموالهم} الطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو.
ومعنى اطمس على أموالهم أزال صورها وهيئاتها.
وقال مجاهد: أهلكها وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيرها عن هيئتها، قال قتادة: بلغنا أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم صارت حجارة، وقال محمد بن كعب القرظي: صارت صورهم حجارة وكان الرجل مع أهله في فراشه فصار حجرين والمرأة قائمة تخبز فصارت حجرًا وهذا فيه ضعف لأن موسى عليه السلام دعى على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ.
وقال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأنصافًا وأثلاثًا.
وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة.
قال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة النخل والثمار والدقيق والأطعمة هذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام: {واشدد على قلوبهم} يعني اربط على قلوبهم واطبع عليها وقسها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان؛ قال الواحدي: وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لمن يشاء ولولا ذلك لما جسر موسى عليه السلام على هذا السؤال: {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} يعني الغرق قاله ابن عباس وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه: قال موسى قبل أن يأتي فرعون ربنا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فاستجاب الله له دعاءه فحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق فلم ينفعه الإيمان.
قال بعض العلماء: إنما دعا عليهم موسى بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون ذلك أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم في الأزل أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم.
{قال} الله لموسى وهارون: {قد أجيبت دعوتكما} إنما نسب الدعاء إليهما وأن الداعي هو موسى وحده لأن هارون عليه السلام كان يؤمن والتأمين دعاء لأنه طلب وسؤال أيضًا ومعناه اللهم استجب فصار بذلك شريك موسى في الدعاء فلذلك قال تعالى: {قد أجيب دعوتكما فاستقيما} يعني على تبليغ الرسالة وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب: {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} يعني ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فإن وعدي لا خلف فيه ووعدي نازل بفرعون وقومه فلا تستعجلا.
قيل: كان بين دعاء موسى عليه السلام وبين الإجابة أربعون سنة.
قال الإمام فخر الدين الرازي: واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله لئن أشركت ليحبطن عملك لا يدل على صدور الشرك منه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرًا، وعلى الإنذار إلا استكبارًا.
أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى، دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول: لعن الله إبليس وأخزى الكفرة.
كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سببًا للإيمان به ولشكر نعمه، فجعوا ذلك سببًا لجحوده ولكفر نعمه.
والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق.
قال المؤرخون والمفسرون: كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت.
وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى: آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج، فكان الإتيان لكي يضلوا.
ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} وكما قال الشاعر:
وللمنايا تربي كل مرضعة ** وللخراب يجد الناس عمرانًا

وقال الحسن: هو دعاء عليهم، وبهذا بدأ الزمخشري قال: كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونوا ضلالًا، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا.
ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم، وهي قراءة الكوفيين، وقتادة والأعمش، وعيسى، والحسن، والأعرج بخلاف عنهما.
وقرأ الحرميان، والعربيان، ومجاهد، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وأهل مكة: بفتحها.
وقرأ الشعبي بكسرها، ولى بين الكسرات الثلاث.
وقيل: لا محذوفة، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله: أبو علي الجبائي.
وقرأ أبو الفضل الرقاشي: أإنك آتيت على الاستفهام.
ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك.
قال ابن عباس، ومحمد بن كعب: صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد.
وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة.
وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى.
وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة.
قال محمد بن كعب: سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير، وأنها الحجارة.
وقال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والقرطبي: جعل سكرهم حجارة.
وقال السدي: مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة.
وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب: أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم، وفيها آثار النقش، وعلى هيئة الفلوس، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ، وهيئة البطيخ الأخضر، وعلى هيئة الخيار، وعلى هيئة القثاء، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش، وربما رأوا على صورة الشجر.
واشدد على قلوبهم: وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان.
وقال ابن عباس أيضًا والضحاك: أهلكهم كفارًا.
وقال مجاهد: اشدد عليها بالضلالة.
وقال ابن قتيبة: قس قلوبهم.
وقال ابن بحر: اشدد عليها بالموت.
وقال الكرماني: أي لا يجدوا سلوًا عن أموالهم، ولا صبرًا على ذهابها.
وقرأ الشعبي وفرقة: اطمُس بضم الميم، وهي لغة مشهورة.
فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء، كما قال الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ** ولا تُلْفينّ إلا وأنفك راغم

ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله: الأخفش وغيره.
وما بينهما اعتراض، أو على أنه مجزوم على قول من قال: إن لام ليضلوا لام الدعاء، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر، وكان العذاب الأليم غرقهم.
وقال ابن عباس: قال محمد بن كعب: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فنسبت الدعوة إليهما.
ويمكن أن يكونا دعوا، ويبعد قول من قال: كنى عن الواحد بلفظ التثنية، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء.
وروي عن ابن جريج، ومحمد بن علي، والضحاك: أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وأعلما أن دعاءهما صادف مقدورًا، وهذا معنى إجابة الدعاء.
وقيل لهما: لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي، فإن وعدي لا خلف له.
وقرأ السلمي والضحاك: دعواتكما على الجمع.
وقرأ ابن السميقع: قد أجبت دعوتكما خبرًا عن الله تعالى، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما، وهذا يؤكد قول من قال: إن هارون دعا مع موسى.
وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل، ثم أمرا بالاستقامة، والمعنى: الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله تعالى، وإلزام حجة الله.
وقرأ الجمهور: تتبعان بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون، وابن ذكوان أيضًا بتشديد التاء وتخفيف النون، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورة فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة، وكسرت كما كسرت الشديدة.
وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة، ويونس والفراء يريان ذلك.
وقيل: النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع، والفعل منفي، والمراد منه النهي، أو هو خبر في موضع الحال أي: غير متبعين قاله الفارسي.
والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله: ابن عباس.
أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه، ذكره أبو سليمان. اهـ.